تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِين،َ فقدِمْنَا المَدِينَةَ، فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الحَارِثِ بنِ خَزْرَجٍ.
فَأَتَتْنِي أُمِّي أُمُّ رُومَانَ، وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي، فَصَرَخَتْ بِي، فَأَتَيْتُهَا لَا أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي ؟ فَأَخَذَتْ بِيَدِي، حَتَّى أَوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ وَإِنِّي لَأُنْهِجُ، حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي، ثُمَّ أَخَذَتْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي وَرَأْسِي، ثُمَّ أَدْخَلَتْنِي الدَّارَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ، فَقُلْنَ:
عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ، فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِي، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ضُحًى، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ.
هكذا صار لعائشة رضي الله عنها حجرة من تلكم الحجرات المتواضعة .. وحلّت مكانا واسعا في قلب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حتّى كان إذا سئل: أيّ النّاس أحبّ إليك ؟ يقول: عَائِشَةُ.
وما كان زواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من عائشة إلاّ تشريفا لصاحبه الصدّيق رضي الله عنه، وطلبا في تثبيت العلقة الإيمانيّة بينهما؛ فهو صاحبه في الدّعوة والهجرة، وأخوه في الإسلام، وصهره، ووزيره.
وكانت الفرحة عارمةً بالمدينة .. فهو عرس محمّد صلّى الله عليه وسلّم..
ولكن لا أحد يعلم أنّهم على موعد مع الحزن مرّة أخرى، فقد كان هناك:
بـلاء بالـمـديـنـة.
قافلة الحياة تعبر ولا تتوقّف .. تحمل الأفراح والأقراح، وفي طيّاتها النّعم والنّقم .. وكانت هذه القافلة تحمل هذه المرّة حزنا يتأهّب لدخول بيت أحد أبطال العقبة والبيعة الخالدة .. إنّه: بيت أسعد بن زرارة رضي الله عنه.
فقد كان يُعاني من مرضٍ أقعده؛ حتّى عالجه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقد روى ابن جرير الطّبري في "تاريخه" بسند صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:" إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كوى أسعد بن زرارة في الشّوكة "[1].
ولكنّه رضي الله عنه مات، فترك جُرحاً في قلوب المسلمين .. وترك دعاءً في قلب الصّحابيّ الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه، فقد كان يدعو له كلّما سمع صوت المؤذّن ليوم الجمعة:
يقول عبد الرّحمن بن كعب بن مالك عن والده:" كان إذا سمع النّداء يوم الجمعة ترحّم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النّداء ترحّمت لأسعد بن زرارة ؟ قال: لأنّه أوّل من جمّع بنا في هزم النّبيت من حرّة بياضة. قال: كم كنتم يومئذ ؟ قال: أربعون "[2].
وتبع ذلك الحزنَ اشتدادُ الحمّى على المدينة النبويّة لرفع درجات الصّابرين، وكما قال تعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: من الآية216]، {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: من الآية19].
فقد كانت المدينة قد اشتهرت بثقل جوّها، تقول عائشة - كما في صحيح البخاري -:" قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله ".
وقد كان معلّم الخير صلّى الله عليه وسلّم يبشّر الصّابرين عليها، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه أنّ رسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ شَهِيدًا )).
ويُعلّمهم أنّ ذلك حظّ المؤمن من النّار: (( إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ[3] جَهَنَّمَ )) [البخاري ومسلم عن أبي هريرة].
وروى القضاعي في "مسنده" عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ )) ["صحيح الجامع"].
ولكنْ في تلك الأيّام اشتدّت عليهم .. حمّى ظهرت أوّل أعراضها على كبير أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أبو بكر رضي الله عنه، وكان معه بلال بن رباح، وعامر بن فهيرة يقاسمانه أوجاعها، ويُشاركانه آلامها.
فبينما كان الصّحابة في حركة وعطاء .. فإذا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يفتقد صاحبه أبا بكر رضي الله عنه.. فيعود إلى بيته ويجد زوجَه عائشة أمّ المؤمنين في أوج قلقها.. تنتظر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لتستأذنه لعيادة أبيها ..
روى البخاري ومسلم عن عائشةَ رضي الله عنها أنّهَا قالتْ:
لَمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم المَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ رضي الله عنهما، قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا - في رواية ابن إسحاق: وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلاّ الله من شدّة الوعك -، قُلْتُ: يَا أَبَتِ ! كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ وَيَا بِلَالُ ! كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ *** وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
- وفي رواية ابن إسحاق: فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول ؟! ثمّ دنوت إلى عامر بن فهيرة رضي الله عنه فقلت: كيف تجدك يا عامر ؟ فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه *** إنّ الجبان حتمه من فوقه
كلّ امرئ مجاهـد بطوقـه *** كالثّور يحمي جلده بروقه
فقلت: والله ما يدري ما يقول ؟!-
وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَقْلَعَتْ عَنْهُ يَقُولُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً *** بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِـرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّـةٍ *** وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ[4]
كان بلال رضي الله عنه يحترق من الحمّى، لكنّه كان أشد احتراقا بشوقه إلى مكّة وجبالها، وأشجارها وعيونها .. فما كان منه إلاّ أن قال كما في صحيح البخاري أيضا:" اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ ".
قالتْ عائشةُ في تتمّة حديثها في البخاري: فَجِئْتُ إلى رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَأَخْبَرْتُهُ - وفي رواية ابن إسحاق: فذكرت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما سمعت منهم وقلت: إنّهم ليهذون وما يعقلون من شدّة الحمّى-..
فتأثّر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بما سمع من حالهم، فما كان منه إلاّ أن التجأ إلى الله تعالى، فقالَ: (( اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ ! اللَّهُمَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ )).
وفي ليلة من تلك اللّيالي المحمومة كان صلّى الله عليه وسلّم في فراشه وعيناه نائمتان، ولكنّ قلبه لا ينام، فرأى في منامه شيئا مخيفا ومفرحا ! فأخبر به أصحابه رضي الله عنهم مبشّرا:
روى البخاري عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنه أنَّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( رَأَيْتُ كَأَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنْ الْمَدِينَةِ حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةَ وَهِيَ الْجُحْفَةُ، فَأَوَّلْتُ أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إِلَيْهَا )).
فارتحل الوباء .. وارتحلت الحمّى عن المدينة .. قَالَتْ عائشة في تمام حديثها:" قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللهِ، قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا تَعْنِي مَاءً آجِنًا ".
ومن فقه هذه الحادثة:
- أنّ الإنسان إذا اتّبع الحقّ وآمن به، فإنّ ذلك ليس تأشيرة نجاة من الأمراض والابتلاءات، بل إنّ الله يبتلي التّائبين والصّادقين والصّالحين رفعا لدرجاتهم إن هم ثبتوا، وتمييزا لهم عمّن يعبد الله على حرف. قال تعالى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت].
- كما أنّ فيها فضل الالتجاء إلى الله عند نزول الوباء، وهو سبحانه القائل:{اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.